قد عرف شهر رمضان – وهو شهر الصبر والصيام والعبادة - بشهر الفتوحات وقد ارتبط اسمه بالمعارك والانتصارات، وقد حدث في نهاية الشهر العظيم معركة من أعظم معارك المسلمين، وهي معركة (وادي بَربَاط) التي فتحت على أثرها الأندلس، وطويت صفحة من صفحات الظلم والجهل والاستبداد، وبدأت صفحة جديدة من صفحات الرقي والتحضر.
كان الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيريَّة (إسبانية والبرتغال) أمرًا طبيعيًا حسب الخطة التي اتبعها المسلمون أثناء فتوحاتهم، وهي تأمين حدودهم ونشر دعوتهم، وذلك بالمضيّ في جهادهم إلى ما وراء تلك الحدود؛ لنشر العقيدة الإسلامية التي تقتضي أن يستمر المدُّ الإسلامي ما دامت فيه القوة على الاستمرار. وبعد أن أرسى موسى بن نصير، ومن معه، كلمة الإسلام بجهودهم في المغرب الكبير، كانت الخطوة التالية الطبيعية هي فتح الأندلس.
وقد عمل موسى على إكمال جهود من سبقه من الجند الدعاة: قادةً وجيشًا في ترسيخ قدم الإسلام في الشمال الإفريقي، فقد عمل على تثبيت الإسلام في قلوب الناس، ونشط في تعليمهم وتربيتهم على مبادئ الدين الحنيف، وأتت جهوده الدعوية ثمارها الزكية؛ فقد أصبح البربر في تلك الديار من أخلص الناس للإسلام والدعوة إليه والجهاد في سبيل نشر تعاليمه.
ولقد كانت أكثرية جيش طارق إلى الجزيرة الأيبيريَّة من المسلمين البربر، الذين تحمَّسوا لدعوة الإسلام، حبًا لها وتضحية من أجلها، لا طمعًا في مغنم أو حرصًا على جاه. فهذا هو هدف جميع الفتوحات الإسلامية التي يكفي الاطِّلاع عليها ومعرفة طبيعتها لرفض الادعاءات وإسقاط المفتريات المزوّرة، التي تشير ـ تلميحًا أو تصريحًا إلى اعتبار الغنائم سبب هذا الفتح، وهو أمر عارٍ من الحجج والبراهين والأدلة، وإنما هي أوهام لا تحمل أية رائحة من الطابع العلمي أو السند التاريخي .
1 ـ فـكـرة الفتـح:
يمكن القول بأن فكرة فتح الجزيرة الأيبيريَّة هي فكرة إسلامية تمامًا؛ بل يُروى بأنها فكرة قديمة تمتد إلى أيام الخليفة الراشد عثمان بن عفان، فقد كان عقبة بن نافع الفهري يفكر في اجتياز المضيق إلى إسبانية لو استطاع، وسبق للمسلمين نشاط على شواطئ إسبانية الشرقية وبعض الجزر القريبة منها، وهي مَيورْقة ومَنورقة، واليابسة. ويذكر الذهبي أنه في سنة 89 هـ: جهز موسى بن نصير ولده عبد الله، فافتتح جزيرتي مَيورْقة ومَنورقة. أما الاتصال بـ (يُليان) حاكم مدينة سبتة، أو بغيره من الإسبان فإنها جاءت مواتية على ما يبدو وفي الوقت الذي كان فيه موسى بن نصير يفكر في تنفيذ فكرة الفتح. ولكن، كيف تم الاتصال بالجانب الإسباني (يُليْان وأنصار الملك المخلوع وغيرهم)؟
اختلفت الأقوال فيما إذا تم الأمر بالمراسلة أو باللقاء الشخصي وأين؟ إذا كان هذا الاتصال أصلًا قد تمّ وبهذا المستوى على كل حال؛ فإن اتصالات الجانب الإسباني بموسى ومساعداتهم ـ أثناء عمليات الفتح، ربما كانت عاملًا مساعدًا سهَّل سير الفتح أو عجَّل به. لكن المبادأة ومردّ العمليات وإنجازها كانت من الجانب الإسلامي الذي اندفع مع الفتح بقوة فائقة معتمدًا على الله في تحقيق ما يصبو إليه من هداية الناس.
وقد استشار موسى الوليد بن عبد الملك (86 ـ 96 هـ) قبل اتصالاته بـ (يُليان)، أو اتصال هذا الأخير بموسى. وقد ترددت الخلافة ـ بادئ الأمر ـ بالقيام بمثل هذا العمل الكبير، خوفًا على المسلمين من المخاطرة في مفاوز أو إيقاعهم في المهالك. ولكن موسى أقنع الخليفة بالأمر، ثم تمّ الاتفاق على أن يَسبق الفتح اختبار المكان بالسرايا أو الحملات الاستطلاعية .
2 ـ الحملة الاستطلاعية، أو حملة طريف:
نفذ موسى أوامر الوليد بأن جهَّز حملة استطلاعية مؤلفة من خمسمئة جندي؛ منهم مئة فارس بقيادة طريف بن مالك الملقب بأبي زُرعة، وهو مسلم من البربر، وجاز هذا الجيش الزُّقاق ـ اسم يطلق أحيانًا على المضيق ـ من سبتة بسفن يُليْان أو غيره، ونزل قرب أو في جزيرة بالوما في الجانب الإسباني، وعرفت هذه الجزيرة فيما بعد باسم هذا القائد: جزيرة طريف، وكان إبحار هذه الحملة من سبتة في رمضان عام 91 هـ (تموز 710 م) وقد جال طريف في المدينة والنواحي المحيطة بها، واستطلع أخبار العدو في تلك الجهات، وعادت حملة طريف بالأخبار المطمئنة والمشجعة على الاستمرار في عملية الفتح، فقد درس أحوال المنطقة وتعرّف على مواقعها، وأرسل جماعات إلى عدة أماكن، منها: جبل طارق لهذا الغرض، فكانت هذه المعلومات عونًا في وضع خُطة الفتح ونزول طارق بجيشه على الجبل.
3 ـ العـبـور:
لما رأى موسى بن نصير ما حققته حملة طريف، وصحّ عنده ما نقل إليه من أحوال الأندلس، بعث طارق بن زياد في سبعة آلاف من المسلمين أكثرهم من البربر والموالي، وأقلهم من العرب. ولما احتاج طارق إلى أعداد في فترة تالية أمدّه موسى بخمسة آلاف، فتمّ جيش طارق من السفن لنقل الجنود إلى بر الأندلس. وقد حرص القائمون على الحملة لاستكمال عملية نزول الجند أن يُعموا أخبار الحملة على الناس. لذلك، أحضر يوليان السفن إلى سبتة ليلًا وأخذت تنقل الجنود تباعـًا، ويبدو أن عملية إبحار الجند اقتضت أكثر من ليلة، فقد قيل: إن الجند الذين نزلوا بر الأندلس كانوا يكمنون في النهار حتى لا يشعر بهم أحد، وكانت السفن تختلف بين سبتة والأندلس، وأهل الأندلس لا يظنون إلا أنها تختلف بمثل ما كانت السفن تختلف به من المنافع والمتاجر. ولما علم أهل الأندلس بالحملة كانت عملية الإبحار قد تمت بسلام في رجب من عام اثنين وتسعين للهجرة.
ونزل طارق بالجند عند جبل كالبي، وهو الجبل الذي أخذ اسم طارق وصار يعرف بجبل طارق، وقيل: لما ملك رئيس الموحدين عبد المؤمن الأندلس وعبر جبل طارق أمر ببناء مدينة على الجبل، وسماه جبل الفتح، ولكن الاسم لم يثبت له وظل اسم جبل طارق جارياً على الألسنة، وسار طارق بالجيش نحو الجزيرة الخضراء ففتحها.
وكان لذريق في شمال الأندلس مشغولاً في محاربة البشكنس، وقيل: في محاربة الفرنسيين، فأرسل خليفته (تدمير) يُعْلِمُه بالهجوم الإسلامي، فعاد لذريق مسرعاً لصده، وفي طريقه لقتال المسلمين عرّج على العاصمة طليطلة دون أن يدخلها، وصالح أسرة غطيشة ودعاهم والقوط المخالفين له إلى الانضمام إليه في حرب العدو المشترك فساروا معه، وقيل: إن لذريق عهد بقيادة ميمنة جيشه وميسرته إلى ابني غطيشة.
وعلم طارق بالحشود التي حشدها لذريق لمجابهته، فكتب إلى موسى ينبئه بضخامتها، ويطلب منه مددًا، فأمدّه موسى بخمسة آلاف مقاتل، ويصف المقري نقلًا عن بعض المؤرخين جند طارق: لقد أقبلوا وعليهم (الزرد)، وفوق رؤوسهم (العمائم البيض)، وبأيديهم (القسي العربية)، وقد تقلدوا السيوف وحملوا الرماح، فلما رآهم لذريق دخله منهم الرعب .
وذكر ابن الأثير: أن طارقاً لما ركب البحر غلبته عينه فرأى النبي ﷺ ـ في نومه ـ ومعه المهاجرون والأنصار قد تقلّدوا السيوف وتنكّبوا القسّي، فقال له النبي ﷺ: يا طارق تقدم لشأنك، وأمره بالرفق بالمسلمين، والوفاء بالعهد، فنظر طارق فرأى النبي ﷺ،
وأصحابه قد دخلوا الأندلس أمامه، فاستيقظ من نومه مستبشرًا وبشر أصحابه وقويت نفسه ولم يشك في الظفر.
إن هذا الفتح يعود إلى قوة المسلمين بتمكن العقيدة وتغلغل معانيها في نفوسهم، إن تفوق المسلمين مستمدٌ دومًا من إيمانهم بعقيدتهم؛ وليس من سوء أحوال الآخرين. كما أن الإسلام ينبع تفوقه وسبقه من ذاتيته القوية، وعقيدته النقية وتشريعه المكين؛ لأنه وحي من الله تعالى.