إن الدين الإسلامي في ضوء القرآن الكريم وفي ضوء السنة النبوية، جزء من الناموس الكوني كما يقول مالك بن نبي وهو يمثل الهدي الذي رسم خطة الأنبياء عليهم السلام للبشرية عبر سلسلة خط النبوة عبر التاريخ.
إن الناظر في القرآن الكريم من جهة وفي تاريخ التبادل والتداول الحضاري للأمم من جهة أخرى يجد أمرا بالغ الأهمية، وهو أن القرآن الكريم بما أنه كتاب هداية، قد حوى ما يحتاجه الإنسان للاهتداء به إلى أن تقوم الساعة.
نحن لا نقول هذا الكلام انفعالا واعتباطا أو حماسة للقرآن لأننا مسلمون نؤمن بكل ما جاء به كتاب الله العزيز فحسب، بل إن الدراسة المتأنية للقرآن الكريم تمكننا من بناء وعي بهذه الحقيقة عن القرآن الذي وصفه الله تعالى بقوله (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).
يقول العلامة محمد إقبال أن مجيء الإسلام "كان إيذانا بميلاد العقل الاستدلالي"، ذلك أن القرآن الكريم كتاب الإسلام، أرسى قواعد النظر العلمي وفتح للإنسان أفق التفكير القائم على المنهج، والبعيد عن الخرافة.
فالقرآن رفض النظرة الخرافية لحركة التاريخ، كما رفض الآبائية الفكرية أو الدينية أو الأيديولوجية، وجعل الإنسان سيدا قادرا على تحديد مصيره بناء على تفكيره واختياره الحر. ورفض القرآن أيضا تفسير حركة التاريخ بناء على الصدفة أو القدرية أو الجبرية والاستسلام لحركة الواقع دون اتخاذ الأسباب.
لذلك فقد نبه القرآن الناس إلى وجود سنن تحكم حركة التاريخ، وهي سنن لا تتأخر، ولا تحابي، ولا تضطرب، وعلى من يريد أن يوجه حركة التاريخ لصالحه أن يتعامل بوعي مع هذه السنن فيسخّرها له.
وإن السنن "هي القانون الذي يحكم الكون فهي القدر الذي شرعه الله لترتيب النتائج على المقدمات وهو الذي يمثل العدل المطلق والجزاء الأوفى على السعي" كما يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة، ولها أهميتها بالنسبة لما نعيشه على المستوى الداخلي لنا كمسلمين أو بالنسبة للإنسانية بشكل عام، وليس الكلام عن سنن القرآن التاريخية بالأمر النظري البحت.
ولهذا علينا بأن نولي عناية كبيرة لهذا الجانب السنني الذي يهدف القرآن إلى تأسيسه في وعينا في مستوى التفكير والإنجاز.
كما أن التأمل في تاريخ التطور أو السقوط الحضاري لمختلف الأمم التي تعاقبت أو لا تزال على مسرح الحياة يجد أن التاريخ محك حقيقي يثبت صدق القرآن وتعاليه ونسقيّته، كما يجد أن التاريخ يمثل تصديقا مطابقا للآيات القرآنية في هذا المجال المهم، ويدرك أن هذا الوجود في مختلف مراتبه قائم وفق سنن الله تعالى.
وفي هذا المقام، أود إبراز الأهمية التي أعطاها القرآن لمسألة السنن لبناء وعي بأن الوجود قائم عليها وليس هناك عشوائية أو عفوية أو صدفة وكذلك أن هذه السنن يمكن تسخيرها وتوظيفها في إحداث التغيير المطلوب منا و ذلك من أجل تحقيق الهدف الأسمى من وجودنا وأن نحقق الخلافة على هذه الأرض من خلال تعميرها وفق المثل القرآنية، وفي نفس الوقت القدرة على تلافي الانحراف المؤدي للسقوط.
ذلك أن أمر القرآن بالسير في الأرض والنظر في بدأ الخلق والتنبيه إلى تبدل الأيام والدول بين الناس الغرض منه تعليم الإنسان أن العفوية والخرافية والصدفة لا وجود لها في عالم الخلق وعالم الأمر، لا وجود لها أبداً، وانظر إلى قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين خلوا من قبل)، و(سنة الله في الذين خلوا من قبل)، و(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)، وغيرها من الآيات التي تنبه إلى أن كل شيء بقدر، وهذه الأقدار ما هي إلا سنن تحكم الآفاق والأنفس والتاريخ.
في الحقيقة، إن وعي هذه السنن والقوانين التي جاء التنبيه عليها في كتاب الله تعالى أمر بالغ الأهمية ليس على المستوى النظري فحسب بل على المستوى العملي من خلال تعاملنا اليومي مع مختلف أحداث التاريخ صغيرها وكبيرها.
وفي عصرنا هذا تداولت علينا أحداث وظواهر بالغة الخطورة نظر إليها الكثير منا على أنها جبر و أمر محتوم لا يمكن مقاومته أو التفاعل والتعامل معه، ولذلك وقف الناس حيارى أمام ظواهر الاستعمار والحداثة، والهيمنة الغربية والحضارة الغربية والنظام العالمي الجديد والعولمة، وغيرها دون أن ينتبهوا إلى أن هذه الظواهر والأحداث لا تخرج عن نطاق عالم الخلق أو عالم الأمر الذين هما ملك لله تعالى، وأنها لا تخلوا من قيامها وفق سنن غاية في الدقة والانتظام، ومن أجل التعامل معها، لا بد من فهم السنن القائمة عليها وتطويعها وتسخيرها لصالح الإنسانية.
لا ينبغي أن يخامرنا الشك في أن الله تعالى، الذي جعل قوانين في الطبيعة واستطاع الإنسان معرفتها وتسخيرها، قد غفل عن جعل قوانين في الظواهر الاجتماعية المختلفة والأحداث التاريخية وهي مخلوقة له أيضا، ولذلك من المهم جدا أن يترسخ في وعينا أن تغيير ما بأنفسنا وتغيير واقعنا يمر حتما عبر اكتشاف هذه السنن وتسخيرها وأن علينا أن نكتشف قوانين هذه الظواهر والأحداث وأن نتعرف على سننها لنتحكّم فيها ونسخّرها حتى لا نقع في الجبرية التي تؤدي إلى اليأس أو الاستقالة من صناعة التاريخ.