قبل مائة عام كان في القرية الساحلية التي يتهدّدها زحف الرمال أقل من ألف ساكنٍ، وصاروا بعد قرن من الزمان نحو مائة ألف أو يزيدون.
وبين بيت لاهيا وبيت حانون إلى شرقها آصرة قديمة، فهُما مدخل غزّة الشماليّ، على طريق القوافل الساحليّ، ويبدو من اسم البلدتين العراقة العتيقة حيث كانت الآلهة الوثنية تُنحت في بيت لاهيا، ويُتعبّد بأصنامها المنحوتة في بيت الملك حانون وقصره كما يزعمون، وكانت آبار المياه الكنعانية والبيزنطيّة تثبّت الحياة فيها.
ومنذ أن دخلها الفتح الإسلامي على يد القائد الفذ عمرو بن العاص في زمان الفاروق عمر رضي الله عنهما فقد تحوّلت إلى ثغر من ثغور الإسلام التي تتحرك فيها خيول المرابطين وتعيش بين تلالها الرمليّة عائلات الحرّاس والثائرين.
كانت سدرة العجمي، تلك الشجرة المعمرة تحكي تاريخ أهلها الذين عاشوا منذ قرون قديمة ببيوتهم الطينيّة حول مسجد الشيخ العارف سليم أبو مسلم أو سليم بن مسلم العراقي الهاشمي الذي كانت الأرض حوله وقفيّة كبيرة على زاوية الشيخ سليم منذ نحو سنة هـ جعلها السلطان سليم العثماني لمسجده العامر عند مروره إلى مصر، وحول مسجد رفيقه وتلميذه الشيخ الصالح سعد رغم أن لجامعه ومزاره أرضاً وقفيةّ كانت تعادل نحو دونم، وقد كان الشيخ سعد يطوف على أهل قريته ويسقيهم الماء صدقةً لأنه كان شديد الفقر، وكان مُجاب الدعاء فيما يروي كبارنا، وقد دمّر أوغاد العصر هذا المسجد التاريخيّ العزيز بقصف مجنون في هذه الحرب، وقد كانوا اقتلعوا جذور شجرة السدرة المعمّرة الشاهدة القريبة منه في حرب عام ، وهي الشجرة التي زُرعت يوم وفاة الشيخ سعد قبل أكثر من خمسمائة عام.
كانت قرية خضراء تمتد عليها أشجار التوت والجمّيز، وبساتين الحمضيّات وجنّات الأعناب، وحقول القمح والشعير، ومشاتل الزهور والتوت الأرضيّ، وكانت مشهورة بتفّاحها اللهواني الشهير الذي رعته ذرّية الشيخ المسلّمي الصالح...؛ وكانت إلى جانب الزراعة فيها تأتي خيرات البادية الجنوبيّة، فمَهَرت أيديها العاملة من النساء والرجال في صناعة الطواقي من وبر الجمال وأصواف الأغنام، كما كانوا يصنعون من سيقان السنابل وسعف النخل السلال والقفف، والتي تطورت لاحقاً لمهارات الخياطة.
وقد كانت قبّة النصر على تلّة النصر الشرقيّة القريبة شاهداً على انتصارات صلاح الدين ومَن خَلَفه من أصحاب المشروع الكبار على جيوش الفرنجة الصليبيين، وظلّت القبّة تحكي هذه الذكرى حتّى جرفها العدوّ بعد عدوان وأزال تلّتها العالية وكثِيبها المُشرِف بعد صولات وجولات لشبابها الذين كانوا يستطلعون منها ويهبطون منها إلى العدوّ بأرواحهم الجريئة.
وكان في خِربة اللقية إلى غرب بيت لاهيا ناحية البحر حامية عسكرية أيوبية وجدوا فيها آثار مسجد قديم ونفق صغير كانوا يتخفّون فيه كما فعل أحفادهم من بعدهم؛ وكان حولها في حقبة النكبة عام معسكر لجنود الهجّانة السودانيين الذين جاؤوا للقتال مع الجيش المصري ضد الغزاة المعتدين، وما يزال الموضع يحمل اسمهم.
ولا تنسى شواطئها البحرية يوم غرقت رمالها ببحر الدماء من عائلة أبو غالية في التاسع من يونيو عام ، وبقيت الفتاة الصغيرة هدى شاهدة على تلك الحادثة المروّعة، ولم تجد مَن ينصفها من هؤلاء القتلة إلى اليوم، ولا ينسون قبلها ما جرى لعائلة الغبن والكسيح في ، وما تزال رمالها تختزن ذكريات موجعة تستنطقها ذاكرة الوجع كلّ حين، وتستذكر كيف سرقت المستوطنات الملعونة معظم الأراضي والمراعي والبساتين حولها.
ستعود بيت لاهيا، وتتذكّر حكايتها بأزجال لحن الشروقي الشعبيّ القديم:
أرضْ البطولِةْ وساحِةْ الفرسانْ ... وقفِتْ في وجه الغدِرْ غضبانِهْ
خاف البحَرْ مِن قَلْبِت الشجعانْ .. والشمس طلّت بَسْ فزعانِهْ
لقد قدّر الله لأرضها الثائرة أن تشهد آخر فصول حياة المهندس يحيى -ابن رافات- ، لينبعث من دمه الانتقام الكبير، وقد طالما عاندت هذه الأرض زحف الرمال وزحف الغزاة على عمران أهلها المرابطين، وستصدّ أطلالها الباقية الصامدة زحف الرمال الهاجمة وجحافل الأصنام، وستنبعث من جديد رمحاً باذخ الانتقام.